القبر فارغ – الأب متَّى المسكين

30/03/2024

إن كان الصليب هو علامة الغلبة الَّتي غلب بها الربُّ الخطيئة والجسد والعالم، فأصبح رمز النصرة في الجهاد ضدّ هذه الأعداء الثلاثة، فالقبر الفارغ الَّذي تركه لنا الربّ مفتوحاً هو علامة الغلبة على الموت، وشهادة ما بعدها شهادة للقيامة من بين الأموات العتيدة أن تكون
 

وإن كان يوجد في العالم الآن صلبان كثيرة، إصطبغ عليها شهداء كثيرون بذات صبغة الربّ إلَّا أنَّه ليس في الأرض كلّها إلى الآن إلّا قبر واحد فارغ


يحجُّ إليه المؤمنون الَّذين برَّحت بهم مشاعر الحبّ والأمانة والوفاء، بشبه مريم المجدليَّة، ومعهم هدايا وعطور ومشاعر هي أثمن من الذهب الفاني، يسكبونها هناك على جدرانه، وفي إنحناء وخشوع وورع، يُقبِّلون الأرض والصخور، يذرفون دموع الرجاء، رجاء اللُّقيا، بشبه الخاطئة


! أي تغيير أصاب الإنسان بقيامة الرب


! أي تجديد أصاب الطبيعة طُرّاً

 أي إنقلاب أصاب المعاني والمفهومات والإصطلاحات


هُوَّذا الإنسان يُولد من جديد، فالقيامة وهبت الإنسان حياةً من بعد موت


والقبر مستودع الظلام والموت، صار مصدر النور والحياة


والذهاب إلى القبور للنحيب والبكاء، إنقلب وأصبح حَجّاً وعزاءً وتقديساً


وذهبيّ الفم في عظته عن الفصح يتأمَّل في القبر الفارغ فيراه حقيقة تنطق بالغفران


«وقد أشرق من القبر حقيقة الغفران»


وهذا حقّ، لأنَّه إن كان بالصليب قد تمَّ الغفران؛ فبالقبر الفارغ إستُعلن وصار برهاناً


إنَّ حقيقة الصليب تظلُّ مخفيَّة عن الأفهام، كما سبق وقلنا، إلى أن يُشرق على القلب نور القيامة وخطايا الإنسان تظلُّ ثقلاً ضاغطاً على الضمير، إلى أن يُرفَع الحجر عن الذهن فتتبدَّد الآثام والذنوب والمعاصي حينما تواجه الأكفان موضوعة، والربّ قائم كاسراً شوكة الموت المسمومة، وشوكة الموت هي الخطيئة بأصولها وفروعها


+++++++


مَنْ ذا يستطيع أن يغلب في معركة الدنيا ويواجه صليب حنَّان أو صليب هامان، إن لم تكن حقيقة القيامة قد إتَّحدت بفكره وضميره، بل إنفعلت في نفسه وجسده، وأعدَّته لمواجهة الموت لحساب الخلود؟


وإن كان يتحتَّم على مَنْ يريد أن يقوم مع الربّ أن يموت معه، فلن يستطيع أحد أن يموت معه إن لم يكن سرّ القيامة قد سَرَى في كيانه كما يسري النور في الظلمة


الموت رعبٌ هو، وكل الطرق المؤدِْية إليه مخيفة، إلى أن تُشرق القيامة، فتُبدِّد سلطانه وتُخضعه للإنسان حتى يطأه بأقدام الإيمان كما وطئت أقدام الشعب قديماً نهر الأردن وهو في عزِّ كبريائه


فإن كان هذا الجيل فيه لمسة الجُبن والرعدة، فلأنَّه لم ينعجن بعد بعجين الفصح فلم تَسْرِ فيه روح القيامة


أنظر إلى الرسل كيف تقبَّلوا أوَّلاً أخبار الصليب والموت، بدون قيامة


فملأت الرعدة أوصالهم، وإنتابهم جزع وخوف أليم، فكادوا يندمون، أو هم ندموا، على زمن تقضَّى مع هذا المصلوب المائت، إذ شعروا أنَّه سيورِّثهم الخزي والعار والمهزأة أمام سلطات الدين والدنيا بل وبين الأهل والعشيرة! حتَّى كادوا يتبدَّدون


ثُمَّ أنظر ما حدث لمَّا إنطلقت بشارة القيامة، كيف تجمَّعوا بل كيف تغيَّروا وتجدَّدوا، بل كيف كرزوا وبشَّروا؟! فصار لهم العار والمهزأة فخراً، وصار العذاب والألم فرحاً، والصليب والموت إكليلاً


لقد تيقَّنوا أنَّه حتَّى ولو أُحكِمَ على الجسد في القبور بالأحجار والأختام، فسوف تنفتح من تلقاء ذاتها يوماً، فتقوم هذه الأجساد عينها بشبه الربّ


فالقيامة، يا إخوة، هي قوَّة الشهادة، هي رؤيا الخلود


هي حالة تجلٍّي، نرى فيها الألم عَذْباً، والصليب حبّاً، والقبر فارغاً


هي إحساس سرِّي إن بلغناه بلغنا الذروة، فهو نهاية الإيمان لأنَّه هو الإتِّحاد بالله



: صلاة


يا كاسر شوكة الموت، يا غالب الجحيم، بقيامتك : نقضتَ أوجاع الجسد، وألغيتَ سطوة الألم، أقمتَ الإتِّضاع، أحيَيتَ المحبَّة، مجَّدتَ الصليب؛ أدخلتَ الحياة الجديدة إلى عالمنا الميت؛ بدَّدتَ يأس الإنسان؛ وعِوَض العجز والذلَّة، نفختَ فيه صورة سلطانك كشفتَ سرَّ الإنجيل، وأضأتَ الطريق، وفتحتَ ذهننا لإدراك سرِّ الخلود؛ أسَّستَ رجاءنا بغير المنظور، وبكل وعد الله، وبكلِّ ما هو آتٍ؛ قوَّيتَ إيماننا بنصرة الروح على الجسد، وغلبة الحق على الباطل، وحقيقة الدهر الآتي


رفعتَ المحبَّة، لنتخطَّى الألم، ونتجاوز الموت، ونتشجَّع في بذلها إلى أقصى حد


أدخلتَ في قلبنا سرَّ الفرح الحقيقي الَّذي لا يمكن لأحد أن ينـزعه منَّا


أنا اليوم أتنسَّم من قبرك رائحة حياتي


وآخذ من حنوطك مسحة لقيامة الجسد


الآن تحوَّلت حقيقة القبر عندي من مقرٍّ إلى عبور


وعِوَض قسمات الحزن ولطخات الدم، ينطبع بهاء نور وجهك في قلبي


الآن جروح يديك ورجليك، تجعلني أسمو بجروحي


وجنبك المفتوح، شهادة حياة، تُبدِّد عنِّي كلَّ أهوال الموت


قيامتك، يا سيِّدي، أكَّدت لي وعد مجيئك، فلا تُبطئ، وتعالَ سريعاً